شيئاً فشيئاً بدأت تتلاشى الخطوط الحمراء التي كانت تمثل خط الدفاع الأول عن المواطن ومعيشته في وجه المستغلين والمتلاعبين والمتاجرين..تلك الخطوط التي تم وضعها لضمان معيشة متوازنة للشريحة الأوسع من المواطنين والتي هي في غالبيتها من العمال والكادحين والفلاحين، حيث ضمنت الدولة الكثير من الجوانب ومنعت تدخل السماسرة والطامحين بجمع ثروات على حساب هذه الشريحة من المجتمع..
حيث كانت الدولة تدعم المواد الأساسية للمواطنين من الرز والسكر والشاي والزيوت وتقدمها بأسعار شبه رمزية عبر القسائم التموينية لكل عائلة، وكذلك مادة الخبز وحتى المحروقات كانت تباع لكل المواطنين بأسعار مدعومة جداً ما ساهم إلى حد بعيد بتحقيق حالة من التوازن في معيشة المواطن السوري عبر سنوات طويلة، وحماه من الجشع والطمع والاستغلال وهي العوامل التي باتت اليوم الأسباب الرئيسية لمعاناة المواطنين في معيشتهم اليومية بعد أن فلتت الأسواق وغاب الدعم عن المواد الأساسية وبهتت تلك الخطوط الحمراء التي كانت موضوعة لتدفع عن المواطنين ظلم التجار وظلامهم الموحش الذي بات يخيم على حياة الغالبية العظمى من المواطنين.. في وقت غاب فيه دور الرقابة وربما غيب بفعل سلوك بعض العاملين في هذا المجال الذي استغلوا وظيفتهم واستثمروها لصالحهم ضاربين عرض الحائط بمصلحة الوطن والمواطنين..
ومنذ فترة دخل الدواء على خط الاستغلال والتلاعب والجشع، رغم أنه كان يحظى بالعديد من الخطوط الحمراء على مدى سنوات طويلة كان من شأنها منع أي ممارسات غير صحيحة في هذا المجال من قبل المنتجين والصيادلة وغيرهم عبر ضوابط وأنظمة متابعة ورقابة دقيقة، سمحت في الفترة الماضية بأن يتمتع المواطن بنعمة الحصول على دواء فعال ومكفول وآمن وبأسعار مناسبة جداً لمستويات دخل الشريحة الأوسع وهي شريحة العمال والمنتجين في هذا الوطن، وهم الشريحة التي بنت وعمرت وزرعت وأدارت المصانع وأنتجت في المعامل وحفرت آبار النفط ومدت خطوط الكهرباء وشبكات الري والمياه وأنجزت مشاريع الخدمات والمرافق العامة المختلفة والمتنوعة، وضمنت استمرار العمل في قطاع النقل البري للبضائع والركاب و....، هي الشريحة التي قدمت سنوات عمرها وشبابها ليزدهر الوطن ويعلو، وهي الثمرات التي قطفها جميع السوريين بمختلف شرائحهم..
ونعود للحديث عن الدواء الذي كما قلنا، وعلى ما يبدو أنه رُفِعَتْ عنه الحصانة، فتحول إلى سلعة قابلة للاحتكار والاستغلال والتلاعب من قبل سماسرة وتجار ومنتجين سمحوا لأنفسهم بالرقص على آلام المواطنين وأوجاعهم، واستغلوا ظروف الحرب العدوانية على البلاد، فوجدوا في هذا المجال ملعباً واسعاً وطيفاً رحباً لجني الأرباح القذرة، انطلاقاً من أن هذه المادة تشكل حاجة ملحة وأساسية للمرضى ولا يمكن الاستغناء عنها وبالتالي فإنها ستلقى التسويق والرواج المطلوب وبالسعر الذي يفرض على المواطن دون أي نقاش أو مبازرة...!!!
وبالفعل ومنذ أكثر من عامين تقريباً بدأت موجات الغلاء تضرب أسعار الدواء بشكل متلاحق ومتسارع، بالتزامن مع انقطاع عدد من الأدوية وفقدانها من الصيدليات، ما أثار الكثير من التساؤلات حول دور الدولة والحكومة والمعنيين في تصحيح الخلل الذي حصل بعد محاولات البعض استغلال تداعيات الحرب العدوانية على سورية وظروفها للزج بقطاع الدواء في أتون هذا السباق المستعر من قبل المستغلين لتكديس الثروات القذرة والأرباح المشبوهة، وبالفعل نجح هؤلاء في تحقيق مرادهم ومبتغاهم واستطاعوا فرض شروطهم على الجهات المعنية تحت ذرائع وحجج واهية لا تعكس الحقيقة ولا تمثل واقع الحال، رغم أننا لا ننكر أن صناعة الدواء تأثرت بشكل كبير كغيرها من الصناعات بتداعيات الحرب العدوانية.
تلك الذرائع والحجج استندت في البداية إلى تذبذب أسعار الصرف وعدم استقرار سعر الدولار ما انعكس على أسعار المواد الأولية الداخلة في صناعة الدواء بما فيها تكاليف العبوات والكرتون والطباعة لزوم التغليف، إلى جانب ارتفاع أسعار المحروقات ما أثر على تكاليف النقل..
لكن المفارقة التي رافقت كل موجات ارتفاع أسعار الدواء كانت تتمثل بنفي قاطع لوزارة الصحة أن يكون هناك أي رفع للأسعار في حين أن واقع الحال كان غير ذلك تماماً فالمواطن كان يلمس هذه التغيرات بالأسعار مباشرة لكونه هو المستهلك وهو الذي يدفع ويعرف حجم التغير بالسعر..
فمنذ حوالي العام تقريباً وفي واحدة من موجات رفع الأسعار سارعت وزارة الصحة لنفي الأمر جملة وتفصيلاً ما دعا نقابة الصيادلة في ذلك الحين إلى الإعلان عن استغرابها وعدم فهمها لمثل هكذا تصريح في وقت كانت النقابة تلقت فيه قائمة من وزارة الصحة تتضمن 495 اسم دواء تم تعديل أسعارها بموجب هذا القرار الصادر عن وزارة الصحة.
نقيب الصيادلة الدكتور محمود الحسن رأى أن حل مشكلة الدواء تكمن في دعم الصناعة الدوائية المحلية من قبل الحكومة بأي شكل تراه مناسباً، بما يضمن استمرار عمل معامل الأدوية من جهة، وتوافر الدواء بأسعار مناسبة للمواطنين، وبهذا يمكن أن يتحقق الشعار المطروح من الحكومة بأن مصلحة المواطن خط أحمر، وأن تأمين الدواء هو من أولوية.
واعتبر الحسن أن الحل الذي يراه البعض هو الأنسب بالاستعاضة عن الدواء المحلي بالمستورد، لا يبدو مثالياً ولا يتناسب مع مساعي الحكومة التي وضعت الكثير من الخطوط الحمراء تحت كل ما يتعلق بمصلحة المواطن، ومنها تأمين الدواء، داعياً إلى بذل الجهود المطلوبة للمحافظة على صناعة الدواء المحلية التي مضى على تأسيسها أكثر من ربع قرن واستطاعت توفير مختلف أصناف وزمر الأدوية المطلوب محلياً وصدرت منتجات المعامل السورية إلى مختلف دول العالم، وأمنت فرص عمل لأعداد كبيرة من طالبي العمل، واستطاعت أن تؤمن القطع الأجنبي من خلال الأدوية المصدرة، وخففت من الحاجة لاستعمال القطع بعمليات استيراد الأدوية من الخارج.
وفي إطار جملة التطورات التي طرأت على قطاع الدواء بدأت تتصاعد دعوات لبعض الموردين بضرورة السماح باستيراد الدواء لسد حاجة السوق المحلية في ضوء توقف عدد كبير من معامل الأدوية عن الإنتاج بسبب تعرضها للتخريب والتدمير في المناطق الساخنة، أو تلك التي باتت عاجزة عن تأمين المادة الأولية للتصنيع..الأمر الذي أثار موجة جديدة من السخط لدى المواطنين، وتصاعد الأصوات المتسائلة عن ترك الحبل على الغارب في مجال الأدوية لكل من تسول له نفسه العبث بأمن المواطن الدوائي واستغلال هذا الجانب لجني الثروات..
ومنذ أيام قليلة تم تسريب خبر على مواقع التواصل الاجتماعي بحدوث ارتفاع جديد على أسعار بعض الأدوية ومنها مسكنات الألم وبعض أدوية القلب بالتزامن مع صمت شديد لوزارة الصحة التي لم تكذب الخبر ولم تؤكده لتترك المواطن عرضة لتلاطم أمواج المستغلين والسماسرة والمتاجرين بآلامه وأوجاعه..علماً أن نشرات أسعار الأدوية تصدر عن الوزارة..
في صيدلية بمدينة دمشق قالت الصيدلانية (ز) إن واقع الحال لا يسر خاطر، ذلك أن بعض الشركات بدأت تستغل حاجة المواطنين، فرفعت أسعارها وبدأت تفرض على الصيادلة بعض الأدوية غير المطلوبة والتي رواجها قليل، فتقوم بتحميل الصيدلية تلك الأدوية مقابل تأمين الأدوية المطلوبة له وبكميات محددة جداً، ما شكل عبئاً جديداً على الصيادلة وبالنهاية المواطن هو الذي يدفع الفاتورة وهو الذي يتحمل أعباء هذه الممارسات غير المفهومة والتي تبقى خارج إطار الرقابة والمتابعة من قبل وزارة الصحة ونقابة الصيادلة..
أحد المواطنين قال: دخلت على إحدى الصيدليات بهدف شراء قطرة عينية كنت استخدمها لمعالجة بعض حالات الالتهابات، وفوجئت برد الصيدلي الذي قال: يطعمك الحج... هذه القطرة مقطوعة من 100 سنة، في محاولة منه للإشارة إلى طول المدة الزمنية التي لم تعد تنتج فيها تلك القطرة، مع العلم أن العام الماضي كانت القطرة متوافرة...
ولدى السؤال عن البديل قال الصيدلاني هناك بدائل ولكن تأتينا بكميات قليلة ومحدودة جداً ولا تكفي الحاجة، ولا توزع على الصيدليات عند الحاجة وإنما يتحكم بذلك بعض أصحاب مستودعات الأدوية..
صاحب صيدلية في جرمانا قال: إن الاعتماد على بيع الأدوية لم يعد يحقق ريعية اقتصادية، ولذلك لجأت بعض الصيدليات إلى زيادة كميات الشامبو والكريمات ومواد التجميل لتعويض تراجع الأرباح، هذا إلى جانب أن بعض الصيدليات تعتمد على بيع المقويات الجنسية الأجنبية ومشتقاتها من المستحضرات والمنتجات المتعلقة بذلك بالنظر إلى ارتفاع الطلب عليها مع الإشارة هنا إلى أن هذه المواد معظمها لا يدخل بشكل نظامي إلى الأسواق، ويتم تأمينها تهريباً، وهذه أسعارها مرتفعة والزبون يدفع دون أن يفاوض بالسعر، فهمه الأول هو تأمينها والحصول على طلبه..
ومن بين المفارقات التي باتت مألوفة هذه الأيام في ضوء التحولات والتغيرات التي طرأت على مجمل جوانب الحياة فقد تجد صاحب صيدلية يعمل كمعقب معاملات بعد أن حول الصيدلية إلى (مكتب) يراجعه فيه الزبائن للحصول على خدمات تتعلق بمعاملات فراغ السيارات أو العقارات، أو إنجاز معاملات مشابهة في بعض الدوائر العامة، ولدى سؤاله عن هذا قال: في ضوء التراجع الكبير الحاصل في توافر العديد من الأدوية المطلوبة، ومحاولات بعض أصحاب المستودعات لإجبار الصيادلة على شراء أصناف معينة من الدواء مقابل تأمين الأدوية المطلوبة، وجدت أن أفضل حل هو عدم الاستجابة لضغوطات بعض هؤلاء، وكما ترى الصيدلية شبه فارغة من الأدوية الضرورية، ما خلا بعض الأنواع، إلى جانب كميات من فوط الأطفال والبودرة والمكياجات، وفراشي ومعجون الأسنان ومعجون الحلاقة..
الأمر الذي يشير إلى تعدد الحلقات المستفيدة والتي من الممكن أن تتلاعب بآلام المواطنين وأوجاعهم وتحقق مكاسبها، وخاصة بعض أصحاب المعامل الذين استخدموا عوامل ضغط على الحكومة لشرعنة زيادة أسعار الأدوية، بعد أن حجبوا عن السوق بعض الأصناف المطلوبة، بحجة عدم القدرة على الاستمرار بالإنتاج في ظل الأسعار المفروضة والمحددة، داعين إلى تعديل الأسعار حتى لا تمنى صناعة الدواء بخسارات نتيجة عدم مواكبة التسعيرة الموضوعة من قبل وزارة الصحة مع التغيرات الحاصلة بسعر الصرف وتبدل أسعار المحروقات، وأجور النقل والرسوم وغيرها..
هذا السيناريو الذي يتجدد من حين لآخر يزيد من التثاقل على معيشة المواطنين لدرجة اضطر البعض من المرضى للتخلي عن الدواء أو على الأقل التخفيف ما أمكن إلى الحدود الدنيا بالنظر إلى تعذر استمرار تناول الدواء بسبب ارتفاع أسعار..
كل هذا يحدث دون أن تجد موجات ارتفاع الأسعار المتلاحقة أي سد يواجهها إن لم نقل أنها تلقى مباركة من قبل بعض الجهات المعنية، في ضوء جملة من التساؤلات المحقة، فإن كانت الظروف السابقة قد فرضت ضرورة رفع أسعار الدواء ومنها مسألة سعر الصرف الذي أثر بشكل مباشر بمجمل أسعار السلع والمنتجات المحلية والمستوردة، وهذا أمر صحيح، لكن اليوم ومنذ عدة أشهر استقر سعر الصرف قياساً بالسابق، لا بل تراجع هذا السعر إلى مستوى أقل من المستويات السابقة، فلماذا لا تزال الأسعار في ارتفاع مستمر ولماذا لا يزال البعض يتستر وراء هذه الذريعة التي فقدت مشروعيتها وأولويتها في التأثير على الأسعار...
وعلى هذا يبدو أن ملف الدواء لن يغلق إلا بعد أن يحقق البعض مصالحهم المادية الضيقة من خلاله أي بالدعوة إلى فتح باب الاستيراد وعدم الاكتراث بالمنتج المحلي الذي شكل صناعة مهمة على مدى السنوات الخمس والعشرين التي سبقت سنوات الحرب العدوانية على البلاد، وأمنت حاجة القطر من مختلف الزمر الدوائية والأصناف، واستطاعت الوصول إلى مختلف الأسواق العالمية التي وصل إليها الدواء السوري..
اليوم هذا الرتم السريع التي يتم العزف به على أوتار فتح باب الاستيراد بحجة تأمين الدواء للمواطن مهما كان المصدر وبأية وسيلة لا يمكن أن يفهم إلا من هذا الباب، في وقت تبدي فيه الجهات المعنية تراخياً في دعم الصناعة الدوائية وعدم القدرة على تأمين مستلزماتها، وتقديم التسهيلات اللازمة لضمان استمرارها بالعمل وبالتالي ضمان تأمين الدواء للمواطنين وخاصة في ظل ظروف الحرب العدوانية التي تبدو البلاد بأمس الحاجة لزيادة حجم الإنتاج المحلي والتخفيف من الاستيراد ما أمكن لتوفير القطع وتشغيل المعامل وتوفير فرص عمل، وقبل كل ذلك إيصال الدواء بأقل سعر ممكن خاصة وأن أسعار الأدوية المستوردة تزيد بأضعاف كثيرة عن سعر الدواء المحلي...